المقدمة: حق التقاضي بين المشروعية والمسؤولية النظامية
يُعد اللجوء إلى القضاء ورفع الدعاوى القضائية من الحقوق الأساسية المكفولة نظامًا لكل شخص، بهدف حماية الحقوق أو المطالبة بها عبر الوسائل النظامية المشروعة. إلا أن هذا الحق، رغم أصالته، لا يُمارس على إطلاقه، بل يقيده مبدأ جوهري يتمثل في عدم إساءة استعمال الحق أو التعسف في استخدامه على نحو يُلحق الضرر بالغير.
ومن هنا برز مفهوم الدعوى الكيدية، وهي الدعوى التي تُقام دون مسوغ صحيح، أو بقصد الإضرار بالمدعى عليه، مع علم رافعها بعدم صحة ما يدعيه. وتُعد مواجهة هذا النوع من الدعاوى ضرورة نظامية لحماية المتقاضين، والحفاظ على هيبة القضاء، وضمان كفاءة عمل المنظومة العدلية، ومنع استنزافها بدعاوى لا تستند إلى حق مشروع.
أولًا: الإطار النظامي للدعوى الكيدية في السعودية
تخضع أحكام الدعوى الكيدية في النظام السعودي لمجموعة من القواعد المستمدة من:
-
نظام المرافعات الشرعية
-
نظام المحاماة
-
والمبادئ الشرعية العامة، وعلى رأسها قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار»
ولا يُكتفى بمجرد رفض الدعوى للحكم بكيديتها، بل يتطلب الأمر توافر أركان محددة يقدّرها القاضي وفق وقائع كل قضية.
ثانيًا: أركان الدعوى الكيدية في النظام السعودي
لإثبات كيدية الدعوى، يجب توافر ركنين أساسيين مجتمعين، ويُعد إثباتهما من المسائل الدقيقة التي تخضع لتقدير المحكمة:
1. الركن المادي (عدم صحة الدعوى)
ويقصد به أن تكون الدعوى:
-
غير صحيحة من حيث الواقع أو القانون
-
أو قائمة على حق غير موجود أصلًا
-
أو أن يكون الحق قد سقط أو انقضى لسبب نظامي
ويُشترط أن يثبت للمحكمة أن المدعي كان على علم بعدم صحة دعواه وقت رفعها، سواء لانتفاء الحق أو لسقوطه أو لانعدام سنده النظامي.
2. الركن المعنوي (سوء النية أو القصد الكيدي)
وهو الركن الأشد صعوبة في الإثبات، ويتمثل في:
-
تعمد المدعي الإضرار بالمدعى عليه
-
أو رفع الدعوى بقصد الإزعاج أو الابتزاز
-
أو محاولة تحقيق مصلحة غير مشروعة
ويشترط أن يكون هذا القصد مقترنًا بعلم المدعي المسبق بعدم أحقيته فيما يطالب به.
ثالثًا: مسؤولية المدعي والمحامي عن الدعوى الكيدية
1. مسؤولية المدعي
إذا ثبت للمحكمة أن الدعوى كيدية، فإن المدعي يتحمل المسؤولية النظامية المترتبة على فعله، استنادًا إلى القواعد الشرعية والنظامية التي تقضي بأن:
من ألحق ضررًا بغيره لزمه جبر هذا الضرر
وتشمل مسؤوليته التعويض عن الأضرار الناتجة عن الدعوى.
2. مسؤولية المحامي
لا تقتصر آثار الدعوى الكيدية على المدعي وحده، بل قد تمتد إلى وكيله القانوني (المحامي)، إذ يوجب نظام المحاماة على المحامي:
-
الالتزام بأخلاقيات المهنة
-
الامتناع عن رفع دعاوى يعلم بعدم صحتها أو كيديتها
وفي حال ثبوت سوء نية المحامي أو علمه بكيدية الدعوى، فإنه يكون عرضة للمساءلة التأديبية وفق أحكام النظام.
رابعًا: سلطة القاضي في تقدير كيدية الدعوى
يتمتع القاضي في النظام السعودي بسلطة تقديرية واسعة في استخلاص الكيدية من ظروف الدعوى وملابساتها، دون التقيد بدليل معين. ومن أبرز المؤشرات التي تستدل بها المحاكم:
-
تكرار رفع الدعوى ذاتها بعد صدور أحكام برفضها
-
التأخر غير المبرر في إقامة الدعوى رغم العلم بالحق المزعوم
-
الإخفاق المتكرر في تقديم أي بينة رغم الإمهال
-
التنازل عن الدعوى فور مواجهة المدعي بأدلة قاطعة
ولا تُعد هذه المؤشرات حصرية، بل تخضع لتقدير المحكمة بحسب كل حالة.
خامسًا: الآثار النظامية المترتبة على ثبوت الدعوى الكيدية
يترتب على ثبوت كيدية الدعوى في النظام السعودي عدة نتائج نظامية تهدف إلى الردع وتحقيق العدالة، من أبرزها:
1. رفض الدعوى
تحكم المحكمة برفض الدعوى لعدم قيامها على سند صحيح.
2. التعويض المدني
إلزام المدعي الكيدي بتعويض المدعى عليه عن:
-
الأضرار المادية، مثل أتعاب المحاماة والمصاريف القضائية
-
والأضرار المعنوية، مثل الإزعاج أو المساس بالسمعة
3. العقوبات التأديبية
قد تفرض المحكمة غرامة مالية لصالح خزينة الدولة، ردعًا لإساءة استعمال حق التقاضي.
4. النشر (في حالات محددة)
في بعض الحالات الجسيمة، قد يُقضى بنشر الحكم الصادر ضد المدعي الكيدي على نفقته الخاصة.
الخاتمة: توازن دقيق بين صون الحق ومنع التعسف
إن تنظيم مسألة الدعوى الكيدية في النظام السعودي يعكس حرص المنظومة العدلية على تحقيق توازن دقيق بين:
-
حماية حق التقاضي بوصفه حقًا أصيلًا
-
ومنع تحوّله إلى وسيلة للإضرار أو الانتقام أو الابتزاز
وبذلك يضمن النظام كفاءة القضاء، ويحمي المتقاضين من الدعاوى العبثية، ويعزز الثقة في العدالة، بما يرسّخ مبدأ أن القضاء وُجد لإحقاق الحقوق لا لإساءة استعمالها.
إضافة تعليق جديد